
عندما كنتُ مسؤولًا عن إدارة الموارد البشرية لشركة تقنية ناشئة، قررت الشركة التحول إلى نموذج العمل عن بُعد بالكامل لخفض التكاليف. ومع أن الفريق كان مميزًا أثناء عمله في المكتب، إلا أن العمل عن بعد بدأ يخلق شعورًا بالعزلة وتفكك الروابط والعلاقات، ما أثر على الأداء العام.
أدركت حينها أن العمل عن بعد ليس مجرد تغيير في مكان العمل أو أمر تنظيمي فحسب، بل يتطلب نظامًا ثقافيًا محكمًا يعزز الترابط والانتماء. وهذا النظام يمثل حجر الزاوية لاستمرارية أي شركة تعتمد هذا النموذج.
لماذا تُعد ثقافة العمل عن بعد ضرورية؟
ثقافة العمل عن بعد هي مجموعة من القيم والمبادئ والممارسات التي يتشاركها الموظفون وتعزز من روح التعاون والتواصل الفعال بينهم، وتساعد في توحيد رؤيتهم مع رؤية الشركة وأهدافها.
ومن واقع تجربتي، فإن غياب ثقافة العمل الواضحة يمكن أن يحوّل المشكلات البسيطة، مثل سوء الفهم أو ضعف التنسيق، إلى عقبات كبيرة تؤثر على جودة المشاريع وسرعة إنجازها؛ فعدم فعالية التواصل عن بُعد يؤدي إلى تشتت الرسائل وصعوبة الفهم المتبادل. علاوةً على ذلك، قد تنخفض الروح المعنوية عندما يشعر الأفراد بعدم الترابط أو الإهمال، ما يؤثر سلبًا على الحافز والإنتاجية.
خطوات أساسية لبناء ثقافة عمل مُحكمة عن بعد
تنطوي ثقافة العمل عن بُعد على عدة خطوات موصى بها حتى تنجح في بناء بيئة عمل فعّالة:
1. ابدأ بالقيم الأساسية للشركة
القيم الأساسية هي العمود الفقري الذي تُبنى عليه ثقافة العمل، خصوصًا في بيئات العمل عن بعد حيث تكون الحاجة لتوحيد الفريق أكبر. وتحديد قيم واضحة مثل الشفافية، التعاون، والابتكار سيساعد على توجيه السلوكيات والقرارات اليومية.
في إحدى الشركات التي أدرتها، عقدنا ورشة عمل افتراضية مع الفريق لتحديد القيم التي تعكس هويتنا الجماعية. كانت النتيجة مذهلة، شعر الجميع أن القيم ليست مجرد كلمات تُفرض من الإدارة، بل هي نتاج مشترك يعبر عن تطلعاتهم.
كنت أحرص أيضًا على بدء الاجتماعات الشهرية بقصة صغيرة تسلط الضوء على تصرف أو إنجاز لأحد الأعضاء يجسد إحدى هذه القيم. هذه الخطوة لم تكن فقط ملهمة، بل ساعدت على ترسيخ القيم بشكلٍ عملي ومؤثر في ذهن الفريق.
2. صمم نظام تواصل فعال
التواصل هو الأساس الذي يُبنى عليه نجاح أي فريق يعمل عن بعد، وبدونه تتزايد فرص سوء الفهم وتشتت الجهود. لكن فعاليته تعتمد اعتمادًا كبيرًا على وضع قواعد واضحة واختيار الأدوات الصحيحة.
ابدأ باختيار أداة رئيسية للتواصل مثل Slack أو Microsoft Teams، ثم حدد قنوات مخصصة لكل غرض (إدارة المشاريع، توثيق الإجراءات، الاجتماعات). ركز هنا على تبسيط البيئة التقنية بتقليل الأدوات المستخدمة. مثلًا، يمكنك استخدام أداة مثل أنا في إدارة مشاريع الفِرق وتوثيق إجراءات العمل والأسئلة العامة، بإنشاء لوحات مخصصة لكلٍ منها.
من المهم أيضًا وضع قواعد تحدد أوقات الرد المناسبة لضمان سلاسة التعاون في إنجاز المهام وتجنب الضغط الناتج عن ثقافة “الرد الفوري”، بأن تكون ضمن ساعات العمل الخاصة بكل موظف إلا في الحالات الطارئة.
3. عزز الروابط الإنسانية عبر الأنشطة الاجتماعية
تشكّل العلاقات الإنسانية جوهر أي ثقافة عمل ناجحة، خصوصًا في بيئات العمل عن بعد حيث يغيب التفاعل الشخصي الطبيعي. ولتعويض هذا الغياب، ينبغي بذل جهد إضافي لتعزيز الروابط بين أعضاء الفريق.
من الأفكار العملية التي أثبتت نجاحها هي تنظيم جلسات “قهوة افتراضية” أسبوعية بدون أجندة رسمية، حيث يتحدث الجميع بحرية. يمكنك أيضًا استضافة فعاليات ترفيهية، مثل المسابقات أو الألعاب الجماعية التي تضفي جوًا من المرح وتخلق ذكريات مشتركة.
كما أن تشجيع الموظفين على مشاركة جوانب من حياتهم الشخصية مثل هواياتهم أو إنجازاتهم خارج العمل، يعزز التفاهم الإنساني بينهم.
4. ضع إجراءات تدعم التوازن بين العمل والحياة الشخصية
يعد التوازن عنصرًا حيويًا لضمان رضا الموظفين واستدامة إنتاجيتهم في بيئة العمل عن بعد. في إحدى الفرق التي أدرتها، لاحظت أن الموظفين يميلون للعمل لساعات طويلة دون أخذ فواصل، مما أدى إلى إرهاق ملحوظ وانخفاض في الأداء.
لمعالجة ذلك، عملتُ مع الفريق على تطبيق سياسات واضحة تدعم التوازن بين الحياة العملية والشخصية. قدمنا ساعات عمل مرنة تتيح للموظفين تنظيم وقتهم بما يتناسب مع التزاماتهم الشخصية، وخصصنا أوقاتًا “خالية من الاجتماعات” للسماح بفترات من التركيز العميق. إضافةً إلى ذلك، شجعنا الموظفين على أخذ فترات راحة منتظمة خلال اليوم لإعادة شحن طاقتهم.
أحد التدابير التي أثبتت فعاليتها أيضًا كان تطبيق سياسة تُلزِم الموظفين بإغلاق أجهزتهم بعد ساعات معينة من العمل. هذه الخطوة البسيطة لم تؤدِ فقط إلى تحسين معنويات الفريق، بل ساهمت بشكلٍ كبير في زيادة الإنتاجية ومنح الموظفين شعورًا بالتحكم في يومهم.
5. احتفل بنجاحات الفريق
التقدير والاحتفاء بالنجاحات، حتى الصغيرة منها، يلعب دورًا جوهريًا في رفع الروح المعنوية وتعزيز الشعور بالانتماء. لضمان عدم إغفال هذه اللحظات، من المفيد تخصيص وقت في الاجتماعات الأسبوعية للاعتراف بإسهامات الأفراد ومناقشة إنجازاتهم.
من واقع تجربتي، عملت مع الفريق على إطلاق منصة بسيطة تتيح للموظفين كتابة ملاحظات شكر لبعضهم. كانت تتنوع بين تقدير لمساعدة في مشروع أو إشادة بتصرف إيجابي. سرعان ما أصبح هذا التقليد جزءًا أساسيًا من ثقافتنا، مما عزز التقدير المتبادل والشعور بأن كل إسهام يُلاحَظ ويُقدّر.
ليس ضروريًا أن تنشئ منصة مخصصة للاحتفاء بالموظفين وشكرهم، يمكنك استخدام أدوات التواصل المعتادة وتخصيص موضوع لذلك.
6. استثمر في التطوير المهني للموظفين
الاستثمار في التطوير المهني هو مفتاح الحفاظ على حماس الموظفين وارتباطهم بأهداف الشركة، ومن الخطوات العملية التي أثبتت نجاحها تخصيص ميزانية سنوية لتطوير الموظفين، سواء من خلال دورات تدريبية متخصصة أو برامج شهادات معتمدة. كما أن تنظيم جلسات تعليمية شهرية يديرها أعضاء الفريق أنفسهم، يمكن أن يعزز الشعور بالمشاركة والتعلم الجماعي.
شجع الموظفين على تحديد المهارات التي يرغبون في تطويرها، وادعم تطلعاتهم المهنية. هذه الاستراتيجية لا تعزز فقط مهارات الفريق، بل تبني أيضًا شعورًا بالتقدير والاهتمام الشخصي الذي يمكن أن يكون فارقًا في بيئة العمل عن بعد.

ختامًا، تذكر دائمًا أن بناء ثقافة عمل عن بعد استثمارًا طويل الأمد، يحتاج إلى استمرارية وتطوير مستمر. فثقافة العمل ليست مجرد أداة تنظيمية، إنها الروح التي تحافظ على فريقك متماسكًا ومنتجًا مهما كانت الظروف.
تم النشر في: يناير 2025
تحت تصنيف: أصحاب الشركات | إدارة فرق العمل عن بعد